إنشاء مجلس الخدمة المدنية

  • أولاً : مجلس الخدمة المدنية منذ بداية التفكير في إنشائه :

    أ - إن فكرة إنشاء مجلس الخدمة المدنية كانت تختمر في ذهن المشترع جدياً منذ بداية الأربعينات ، أي منذ ما قبل الاستقلال ، ففي شباط من العام 1942 أنشئت في رئاسة الجمهورية « مديرية لدائرة الموظفين » أنيطت بها أمور الملفات الشخصية وإعطاء الرأي ، فيما يسمى اليوم بشؤون الموظفين الذاتية ولا سيما قضايا التعيين والترقية والعزل وانتهاء الخدمة . ورغم ذلك بقي هذا « الإنشاء » على ما يبدو نظرياً لأن الأمور ظلت تفتقر في هذه القضايا إلى جهاز مركزي يتولاها ويضبطها وينسق فيما بينها ويحول على الأقل دون الوصول بهذه الأمور إلى الدرك الذي وصلت إليه في الولاية الثانية من عهد الرئيس بشارة الخوري وأدى إلى إذكاء المعارضة ، تلك المعارضة التي أسقطت الرئيس المذكور في أيلول عام 1952 ونسبت إليه في رأس ما نسبت سكوته عن الفساد الإداري الذي بلغ مداه في الآونة المذكورة .

    ب - بموجب المرسوم الاشتراعي رقم 12/55 تاريخ 7/1/1955 ، أنشأت الحكومة مجلساً للخدمة المدنية في رئاسة مجلس الوزراء . وبالرجوع إلى تلك المرحلة من نهاية العام 1954 يبدو أن هناك نزاعاً كان قد نشأ بين الحكومة في سعيها إلى إنشاء مجلس للخدمة المدنية بالصورة التي أنشئ فيها بموجب المرسوم الاشتراعي رقم 12/55 وبين مجلس التصميم والإنماء الذي ثارت ثورته على الإنشاء المذكور وعّبر عن ردة فعله في تقرير رفعه إلى المجلس النيابي بتاريخ 25/1/1955 والذي ورد فيه حرفياً الفقرة التالية : « وقبل انتهاء مدة إصدار المراسيم الاشتراعية بأربعة أيام طلبت الحكومة من مجلس التصميم والإنماء الاقتصادي وضع مشروع مرسوم اشتراعي لإحداث هذه المؤسسة ، لكنه فوجئ بمرسوم اشتراعي رقمه 12 بشأن الخدمة العامة كان تحت الطبع في الجريدة الرسمية ، والذي ينص في إحدى مواده الختامية على أن للحكومة الحق بأن تحدث بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء ، مجلساً للخدمة المدنية مؤلفاً من الفئة الأولى والثانية ، مما قضى على هدف المشروع المقدم من مجلس التصميم والإنماء وهو أن يكون مجلس الخدمة المدنية مستقلاً وان يكون أعضاؤه من خارج الموظفين بحيث لا يتأثر بالاعتبارات السياسية » .

    وتنفيذاً لأحكام التفويض المعطى لها بموجب المرسوم الاشتراعي رقم 12/55 استصدرت الحكومة في أيار عام 1955 قراراً كونت بموجبه بنية هيكلية مجلس الخدمة المدنية من رئيس غرفة مجلس الوزراء رئيساً ومن سائر المديرين العامين أعضاء . الأمر الذي أثبت أن تخوّف مجلس التصميم والإنماء الاقتصادي من فقدان المجلس المنشأ استقلاليته كان في محله .

    ج - وفي تقويم لهذه المرحلة المبكرة من التفكير في إنشاء مجلس للخدمة المدنية يمكن القول أن القائمين على أمور الإصلاح قد راودتهم جدياً فكرة إنشاء مجلس للخدمة المدنية يتمتع بإستقلالية كاملة ويتولى الاهتمام بشؤون الإدارة وشؤون موظفيها من حيث تطوير أساليب عملها وتحديث ملاكاتها وحسن اختيار موظفيها ومتابعة مسيرتهم خلال الوظيفة ، إعداداً وتدريبـاً ، حقوقاً وواجبات ، ومتابعة أداء عملهم وحفز هذا الأداء معنوياً من خلال ترفيع مبني على حسن الأداء وحـده ، ومادياً من خلال مكافآت تتناسب وأهمية الأداء وجودته .

    ثانياً : مجلس الخدمة المدنية و12 حزيران سنة 1959 :

    أ – يعتبر المرسوم رقم / 193 / تاريخ 26/12/1958 المرجع الأساسي للمرحلة الإصلاحية التي شهدت نشر 162 مرسوماً اشتراعياً في مختلف جوانب الإدارة والحكم ، منها 80 مرسوماً اشتراعياً في الفترة ما بين 16 كانون الأول 1958 الى 10 حزيران 1959 ، و 62 مرسوماً اشتراعياً أعلن عنها في يوم واحد هو 12 حزيران 1959 .

    تناول المرسوم رقم 193 القضايا المركزية التالية : تحديد مهمات كل وظيفة والمسؤوليات المنوطة بالموظف ، تبسيط المعاملات الإدارية ، أو آليات عمل الإدارة ، مراقبة التنفيذ ، إبعاد المداخلات السياسية عن الإدارة وإيجاد معهد وطني للإدارة يعني باختيار أفضـل الموظفين وتدريبهم ، وإيجاد « مجلس الخدمة المدنية » الذي شكّل حصانة مهمة للموظفين وتأمين الحماية لهم أثناء تأدية واجباتهم ، والإستفادة القصوى من تقارير الخبراء لتطوير الإدارة اللبنانية لكي تتلاءم مع متطلبات بناء الدولة العصرية على غرار ما تقوم به أرقى الدول .

    ب - في 12 حزيران عام 1959 أصدرت الحكومة المرسوم الاشتراعي رقم 114 أنشأت فيه مجلساً للخدمة المدنية بالإستناد إلى التفويض البرلماني المعطى للحكومة بموجب القانون الصادر بتاريخ 12/12/1958 .

    وكانت أول إشارة جدية على تصميم الحكومة على إنشاء المجلس المذكور إقدامها على تشكيل ما سُمّي بالهيئة المركزية للإصلاح الإداري بموجب المرسوم الاشتراعي رقم 193/58 السابق ذكره وتكليفها في جملة ما كلفتها به « إيجاد هيئة مستقلة تدعى مجلس الخدمة المدنية تعنى بجميع شؤون الموظفين وبالإطلاع الدائم على سير الإدارة بغية اقتراح ما يؤول إلى تحسينه » .

    وقد تكَّون المجلس المنشأ بموجب المرسوم الاشتراعي رقم 114/59 من هيئة تتألف من رئيس وعضوين هما رئيس إدارة الموظفين ورئيس إدارة الإعداد والتدريب ، ومن إدارتين هما : إدارة الموظفين ، وإدارة الإعداد والتدريب التي أنشىء فيها المعهد الوطني للإدارة والإنماء ، وتكونت إدارة الموظفين من مصلحتين : مصلحة المراقبة والدراسات ومصلحة المباريات والملفات الشخصية ، وتكونت إدارة الإعداد والتدريب بدورها من مصلحتين : مصلحة الإعداد والتدريب ، وأمانة سر المعهد الوطني للإدارة والإنماء . والى جانب ذلك أنشئت المصلحة الإدارية المشتركة وارتبطت مباشرة برئيس المجلس .

    - إن هذا التكوين لمجلس الخدمة المدنية عام 1959 أتى من ضمن تصور علَّق عليه الآمال لكي يقود الإدارة والإصلاح فيها بصورة دائمة ويكون حارساً للقانون ، يضمن تحرير الإدارة من الضغوطات المختلفة ، ولا سيما منها الطائفية والسياسية ، انطلاقاً من تحرير نفسه وعدم ارتهانه واستقلاليته وخلق منهجية مركزية واحدة في مسك شؤون الموظفين يكفل تنسيقها بين كل الإدارات الرسمية من جهة وعدم تشتتها بالتالي من جهة ثانية ويحقق في النهاية مرجعية إدارية واحدة تجمع مراقبة القرار ومراقبة تنفيذه ، وباختصار " يحقق على ما رأى البعض " تغييراً جذرياً في شؤون الموظفين والتوظيف " .

جميع الحقوق محفوظة ©     إتصل بنا  |  خريطة الموقع